البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب كيف تمكن الحزب من الاستمرار؟

نشطت خلال السنوات الأخيرة محاولات عديدة للتقليل من أهمية الدور الذي لعبه البلاشفة في الحركة العمالية في روسيا. ومن بين الدراسات الأكثر جدية في هذا المجال هناك كتاب روبرت ماكين، الموثق بشكل جيد، والذي يقول إن هدفه تصحيح الصورة الوردية والمبتذلة التي قدمها المؤرخون الستالينيون عن تاريخ البلشفية والتي تصوره كمسيرة مظفرة من الانتصارات المتواصلة، وكأن الحزب لم يرتكب أي أخطاء، وكان دائما في صعود، ودائما في قيادة كل إضراب وكل مظاهرة، وما إلى ذلك. لا يمكن لهذه القصص الخيالية أن تعلم للمرء أي شيء عن الطريقة التي تم بها في الواقع بناء الحزب البلشفي. وهكذا فإن الطريق تصير مغلقة، ليس فقط إلى الماضي، بل وإلى المستقبل أيضا. من الضروري فهم حقيقة الماضي من أجل التعلم منه. وفي حين أن محاولة ماكين ربما تكون مبالغا فيها، فإنه لا يوجد سبب للشك في أن الحزب قد كان في حالة سيئة للغاية في بداية الحرب، وذلك طبيعي، فالظروف الموضوعية كانت صعبة للغاية في ذلك الوقت. يقول ماكين:

[Source]

«تذكر إحدى المذكرات أن العمال في مصانع الصلب في بتروغراد تعاملوا خلال السنة الأولى للحرب بلامبالاة تجاه موقف البلاشفة المناهض للحرب. وفي بعض مؤسسات الدفاع الأساسية الأخرى، مثل إريكسون وبوتيلوف، قدم العمال بشكل طوعي ما يعادل خمس أجرهم الأسبوعي من أجل دعم العائلات التي تم استدعاء معيلها للخدمة العسكرية. بقيت الإضرابات من الأحداث النادرة للغاية حتى صيف 1915. وقد اعترف القادة البلاشفة في نقاشاتهم الداخلية بوجود هذا العائق. وفي ربيع 1915، على سبيل المثال، أقروا "بعدم قدرتهم على جذب الجماهير إلى المعسكر الاشتراكي من خلال المظاهرات ضد الحرب".»

يستشهد ماكين بعامل من منطقة فيبورغ الحمراء في بتروغراد، والذي قال إن: «المزاج في المصانع... خلال السنة الأولى من الحرب، لم يكن ثوريًا جدا». ويخلص إلى أن:

«لم يتجاوز عدد أعضاء الحزب [في بتروغراد] 500 على الأكثر. وبفعل الغياب شبه الكامل لأي تنظيم على صعيد المدن أو حتى المقاطعات، لم يكن من الممكن القيام بأي نشاط مخطط منسجم أو صياغة استراتيجية متفق عليها. لم يكن من الممكن القيام بالعمل التحريضي إلا على نطاق ضيق جدا. من المرجح أنه بسبب كل هذه الظروف الصعبة كان توزيع نسخ سوتسيال ديموكرات، إضافة إلى المنشورات المناهضة للحرب، التي بلغ عددها 25 منشورًا، محصورا للغاية، حتى صيف عام 1915.»

وفي رده على المؤرخين السوفييت الذين ادعوا أن النواب البلاشفة الخمسة، إلى جانب كامينيف، قد أعادوا، في بداية الحرب، بناء المكتب الروسي للجنة المركزية، يقول ماكين إنه: لم يجد أي تأكيد على هذا الادعاء في ملفات الأوخرانا ذات الصلة بالموضوع. لا يوجد سبب للشك في ما يقوله ماكين لأن اعتقال كامينيف، إلى جانب نواب الدوما، والاضطراب العام الذي أصاب لجان الحزب، كان من شأنه أن يوقف أنشطة الحزب، إن كان له أي نشاط أصلا. إن غياب القيادة، سواء من الهيئات القيادية في روسيا أو من الخارج، كان يعني أن كل شيء صار يعتمد على مبادرة العمال البلاشفة في المصانع. إن صعوبة الحصول على معلومات دقيقة حول عمل هؤلاء الأبطال والبطلات، الذين لم يكشف التاريخ عن هويتهم، أمر بديهي خاصة في ظروف السرية الصارمة التي كانوا يشتغلون في ظلها. لكن هذا النقص في المعلومات لا يعني أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا موجودين. وهي النقطة التي يؤكد عليها ماكين قائلا:

«في ظل غياب قيادة فعالة من الخارج، أو من لجنة بيترسبورغ، صار وضع الاستراتيجية والتكتيكات الثورية، طوال السنة الأولى من الحرب، يعتمد على تقدير المناضلين الاشتراكيين القاعديين».

في سياق الاستعداد لتخليد ذكرى يوم الأحد الدامي، في 09 يناير 1915، نجحت لجنة بيترسبورغ في إصدار منشور يدعو إلى الإضراب في تلك المناسبة. يقوم ماكين بمقارنة الاستجابة الضعيفة لتلك الدعوة بالاستجابة التي لاقتها دعوة الإضراب بعد إطلاق النار على عمال لينا في عام 1912. لكن محطة 1912 كانت بداية نهوض في الصراع الطبقي، عندما كان العمال قد بدأوا يتعافون من آثار هزيمة ثورة 1905. أما في سياق الحرب وتصاعد النزعة الوطنية، يصير مجرد إنتاج منشور إنجازا في حد ذاته. لقد استجاب 2000 عامل لنداء الإضراب، وهو عدد ضئيل مقارنة بأرقام ما قبل الحرب، لكنه شكل خطوة مهمة في تلك الظرفية. يظهر ذلك أن الجماهير كانت ما تزال مستسلمة وأن عربدة الردة الرجعية ما تزال متأججة. يقول ماكين:

«وضعت غارات الشرطة وحملة الاعتقالات الواسعة، خلال نهاية شهر أبريل، حدا لما كان الثوار يخططون للقيام به للاحتفال بفاتح ماي. ذكرت تقارير الشرطة في ذلك الوقت أن "عمل اللينينيين المحليين في الوقت الحاضر تفكك بالكامل". وعلى الرغم من أن من تبقوا من أعضاء لجنة بيترسبورغ قد نجحوا في إصدار منشور عشية "عطلة" العمال، فإن معظم النسخ لم توزع. ولم يضرب في ذلك اليوم سوى 600 عامل».[1]

ومع ذلك فإن عملاء الأوخرانا قد احتفلوا قبل الأوان. فالتيار اللينيني لم يكن قد سحق بأي حال من الأحوال. لقد كان إنشاء منظمة مركزية قوية ومنضبطة مؤلفة من كوادر ثورية هو ما سمح للبلاشفة بالبقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب. كانوا وحدهم من تمكنوا من مواصلة العمل الثوري في ظل ظروف العمل السري القاسية، بينما أدت الحرب إلى تحطيم المناشفة بالكامل. وبحلول يناير 1916 ، وجد مارتوف نفسه مجبرا على أن يكتب بنبرة حزينة أن: «الأمور في روسيا تسير بشكل سيء بالنسبة لنا... يخشى فـ إ (دان) أن كل القوى النشيطة تنتقل إلى صفوف اللينينيين»[2]. لم يكن هذا مصادفة، فالضعف التنظيمي والسياسي للمناشفة (واللذان يعتبران وجهان للعملة نفسها) جعلهم غير مهيئين للتعامل مع الظروف الشاقة للعمل السري في زمن الحرب. وعلى أي حال فقد كانوا قد تبنوا مبدأً تصفية المنظمة السرية لصالح الأنشطة القانونية البحتة. كيف يمكن تبرير مثل هذا الموقف؟

في الواقع ، كانت المنظمة المنشفية بالكاد موجودة في روسيا في ذلك الوقت. هذا ما يعترف به حتى الكتاب غير الماركسيين، مثل روبرت ماكين، الذي يقول: «لم تقدم اللجنة التنظيمية ومجموعة المبادرة المركزية أي دليل على وجودها في تلك الفترة». ويضيف: «لقد أدت ندرة المنظمات المنشفية وكذا تذمر المثقفين "التصفويين" من الإضرابات كشكل من أشكال الاحتجاج، إلى عدم اكتراثهم الكامل بإمكانية الاستفادة من المناسبات السياسية».[3]

عدم امتلاك البلاشفة لجهاز منظم آنذاك لم يكن يعني موتهم. إذ كيف كان من الممكن للحزب البلشفي أن يتعافى بسرعة بعد فبراير، لو أنه كان قد تعرض للتصفية بالكامل خلال الحرب؟ كيف نجح في حسم السلطة خلال تسعة أشهر فقط؟ لن يكون المرء قادرا على الإجابة على هذا اللغز، إذا قبل بفكرة ماكين كحقيقة مطلقة. لكنه يوجد في الواقع جواب بسيط للغاية: ففي الفترة التي سبقت الحرب، كان أربعة أخماس العمال المنظمين يدعمون البلاشفة. لم يكن الكثير منهم ناشطين في لجان الحزب، لكنهم كانوا قرّاء للبرافدا ويتعاونون مع البلاشفة بطريقة أو بأخرى. كما أنه كان هناك مئات الآلاف من الأشخاص الآخرين الذين يتأثرون بشعارات البلاشفة. لقد استمرت فكرة الحزب حية في أذهانهم على الرغم من أن رؤوسهم كانت مطأطئة. كان هؤلاء هم الرصيد الحقيقي للحزب، الذي عاود الظهور مع تغير الظروف ولعب دورا رئيسيا في أحداث فبراير 1917. وفي نفس الرسالة إلى شليابنيكوف، التي أكد فيها على الموقف الصعب الذي وجد الحزب نفسه فيه بعد اعتقال نواب مجلس الدوما، يشير لينين إلى أن القوة الحقيقية للبلشفية هي تلك الفئة من العمال الثوريين الذين تلقوا تكوينهم على يد الحزب في الفترة ما بين 1912 و1914، إذ يقول:

«لقد أصبح عمل حزبنا أصعب 100 مرة على جميع الأصعدة. لكن علينا رغم ذلك أن نواصله! لقد دربت برافدا آلاف العمال الواعيين طبقيا، والذين من بينهم سيتم، على الرغم من كل الصعوبات، تشكيل مجموعة جديدة من القادة، وبناء اللجنة المركزية للحزب في روسيا».[4]

لقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن لينين كان محقا، على الرغم من محاولات روبرت ماكين لإظهار العكس. وفي غشت 1915، عندما بدأ المد في التصاعد داخل روسيا، كتب لينين إلى شليابنيكوف، مطالبا بإعادة بناء المنظمة، حيث قال:

«سيكون من المهم للغاية بالنسبة للمجموعات القيادية أن تتجمع في مركزين أو ثلاثة (في السرية بشكل أساسي)، وإقامة الاتصال معنا، وإعادة بناء مكتب للجنة المركزية (يوجد واحد بالفعل في بيترسبورغ، على ما أعتقد) وبناء اللجنة المركزية نفسها في روسيا . عليهم أن يقيموا علاقات قوية معنا (وإذا لزم الأمر يجب إحضار شخص أو شخصين منهم إلى السويد لهذا الغرض). سوف نرسل لهم نشرات إخبارية ومنشورات، إلخ. إن الشيء الأكثر أهمية هو العلاقات القوية والمستمرة».[5]

كان الحزب ما يزال يواجه صراعا شاقا. فمنظمات الحزب داخل روسيا كانت مفككة بشكل كبير وكانت الاتصالات مع الخارج صعبة للغاية. لكن الشيء الأكثر أهمية، كما أشار لينين في هذه الرسالة، هو أن الحزب قد نجا، على الرغم من كل شيء: «من الواضح أن القطاعات المتقدمة من العمال البرافديين، الذين يشكلون حصن حزبنا، قد نجت، على الرغم من الدمار الهائل الذي لحق بصفوفها».

تذهب تعليقات لينين مباشرة إلى صميم الموضوع. فبغض النظر عن المتابعات وبغض النظر عن عدد الاعتقالات، وبغض النظر عن عدد المخبرين الذين نجحوا في التسلل إلى الحزب، فإنه كان من المستحيل القضاء على البلشفية. إذ طالما بقيت هناك نواة صلبة من الكوادر المدربة والمتعلمة على أساس أفكار الحزب وتقاليده وأساليب عمله، فإن البلشفية ستستمر لا تقهر. كتب تروتسكي:

«لقد تسببت الحرب في خراب مروع للحركة السرية. فبعد اعتقال فريق الدوما، لم تعد لدى البلاشفة أي منظمة حزبية مركزية على الإطلاق. كان للجان المحلية وجود عرضي، وغالبا ما كانت مفصولة عن المقاطعات العمالية. كانت المجموعات والحلقات المنعزلة والأفراد بالكاد يفعلون أي شيء. لكن عودة النشاط إلى حركة الإضرابات أعادت لهم بعض الروح وبعض القوة في المصانع. لقد بدأوا تدريجيا في العثور على بعضهم البعض وبناء علاقات على الصعيد المحلي. عاد العمل السري إلى الحياة مجددا. ونجد في تقارير الشرطة لاحقًا أنه: "منذ بداية الحرب، كان اللينينيون، الذين تدعمهم في روسيا أغلبية ساحقة من المنظمات الاشتراكية الديمقراطية السرية، يصدرون في مراكزهم الكبرى (مثل بتروغراد وموسكو وخاركوف وكييف وتولا وكوستروما ومقاطعة فلاديمير وسمارة) أعداد كبيرة من النداءات الثورية التي تدعو إلى وقف الحرب والإطاحة بالحكومة الحالية وتأسيس جمهورية. ولهذا العمل نتائج واضحة في إضرابات العمال وتحركاتهم".».[6]

هوامش:

1: McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 368, p. 369, p. 367 and p. 370.

2: Pis’ima P.B. Aksel’rod Yu. O. Martova 1901-1916, p. 355.

3: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 371.

4: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 28/11/1914, vol. 35, p. 175, (التشديد من عندي آ.و)

5: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 23/8/1915, vol. 35, p. 205.

6: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 62.