البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب البلاشفة "اليساريون"

إذا كان كامينيف يمثل انحرافًا في اتجاه الانتهازية، فقد كانت هناك أيضًا انحرافات عصبوية ويسارية متطرفة، خاصة بين فئة من المنفيين. إذ تبنى بوخارين وبياتنسكي، إضافة إلى عناصر قيادية أخرى، موقفا يساريا متطرفا في ما يخص المسألة القومية. وقد أصر بعض أنصار جماعة بوخارين (ن. ف. كريلينكو وف. روزميروفيتش) في سويسرا على إصدار جريدة محلية خاصة بهم، في تحد منهم للجنة المركزية التي قررت، بسبب نقص الموارد المالية، أن تمنع المجموعات المحلية (باريس، جنيف) من القيام بذلك، الشيء الذي أدى إلى خلاف كبير حول هذه القضية. لينين، الذي كان يولي بوخارين مكانة خاصة، ويعترف له بإخلاصه وقدراته كمنظر، كان مع ذلك على دراية تامة بنقاط ضعفه. لقد احتلت مسألة تقرير المصير دائما مكانة مركزية في الترسانة النظرية للبلاشفة، لكنها صارت آنذاك، في خضم الحرب الإمبريالية، أكثر أهمية بكثير. لم يكن من الممكن تقديم أية تنازلات بخصوص هذه المسألة لأنها كانت تتضمن مسألة الإلحاقات- والتي هي مسألة مركزية في زمن الحرب.

[Source]

معارضة لينين للحرب الإمبريالية لم تكن تعني إطلاقا معارضة كل الحروب بشكل عام. لقد كان يميز بحذر شديد بين مختلف أنواع الحروب. وقد وجه في جميع كتاباته نقدا شديدا للنزعة السلمية وشعارات السلام ونزع السلاح. لقد أشار دائما إلى أنه يجب على الماركسيين الدفاع عن الحروب العادلة، أي حروب التحرر التي تخوضها الشعوب والطبقات المضطهَدة. وفي رسالة كتبها لكولنتاي، في أواخر يوليوز 1915، رد لينين على حجج بوخارين قائلا:

«كيف يمكن لطبقة مضطهَدة أن تكون عموما ضد تسليح الشعب؟ إن رفض ذلك يعني الوقوع في موقف شبه لاسلطوي تجاه الإمبريالية؛ وهو ما يمكن ملاحظته، في اعتقادي، عند بعض اليساريين حتى بين صفوفنا. يقولون إنه بما أننا دخلنا مرحلة الإمبريالية فإننا لا نحتاج إلى تقرير المصير ولا إلى تسليح الشعب! إن هذا خطأ فادح، إذ أنه من أجل الثورة الاشتراكية ضد الإمبريالية بالضبط نحتاج إلى كل من تقرير المصير وتسليح الشعب.

هل هو "قابل للتحقيق"؟ إن هذا الاعتراض غير صحيح، فبدون ثورة، يكاد أن يكون كامل الحد الأدنى للبرنامج غير قابل للتحقيق. إن اشتراط عدم تبني إلا ما يمكن تحقيقه فورا يؤدي إلى انحطاط الواقعية إلى خيانة».[1]

بالنظر إلى تدهور الوضع الداخلي قرر لينين في النهاية الدعوة إلى كونفرانس لمجموعات الحزب في المنفى، والذي افتتح أشغاله في بيرن في 15 فبراير 1915. حضره ممثلو اللجنة المركزية وهيئة تحرير جريدة الحزب سوتسيال ديموكرات ومنظمة المرأة البلشفية، وفروع الحزب في المنفى - في باريس وزيورخ وبرن ولوزان وجنيف وبوغي ان كلارنس ولندن. وكان من بين الحاضرين لينين وكروبسكايا وأرماند وزينوفييف وبوخارين. وبالاضافة إلى نقاش الخلاف مع مجموعة بوغي، فقد انعقد الكونفرانس لمناقشة الاختلافات حول موقف الحزب من الحرب. في الواقع لقد كان الخلاف التنظيمي حول إصدار صحيفة محلية هو التعبير غير المباشر عن تلك الاختلافات السياسية. قدم بوخارين أطروحات تعكس رأيه بأن ظهور الإمبريالية يعني أن المطالب الديمقراطية لم تعد مهمة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وقد كانت ملاحظاته موجهة تحديدًا ضد حق الأمم في تقرير المصير، وهو ما كان صدى لحجج روزا لوكسمبورغ واليساريين البولنديين.

ليس هناك سوى إشارة واحدة إلى تلك التوصية التي تقدمت بها مجموعة بوغي بشأن مهام الحزب، حيث أعربت عن تحفظات قوية على شعار لينين عن "الحرب الأهلية" وخاصة ما كان يسمى بشعار "هزيمة روسيا". وفي حين وافقت التوصية بشكل عام على فكرة أن الحرب ستثير، في مرحلة معينة، حركة ثورية وحربا أهلية، وبينما تقبلت الأهمية الثورية التي يكتسيها الشعار في النضال ضد "البورغفريدن" ('السلام الاجتماعي'، أي توقيف النضال الطبقي طوال فترة الحرب)، فإن التوصية تقول:

«ومع ذلك فإن مجموعتنا ترفض رفضا قاطعا أن نرفع بخصوص روسيا ما يسمى بشعار هزيمة روسيا، وخاصة بالطريقة التي تم التعبير بها عنه في العدد رقم 38 من سوتسيال ديموكرات».[2]

إن المقال المشار إليه هنا هو المقال الذي كتبه زينوفييف والذي وضع موقف الانهزامية الثورية بطريقة فجة للغاية.

افتتح لينين أشغال كونفرانس بيرن بنقاش مسألة الحرب، وركز ملاحظاته على البيان. حاول لينين الوصول إلى اتفاق رفاقي مع مجموعة بوغي. لكن ومباشرة بعد نهاية الكونفرانس عاد كل من إ. ب. بوش و ج. ل. بياتاكوف (الثنائي اللذان لم يكونا ينفصلان والمعروفان باسم "اليابانيين" بسبب أنهما كانا قد فرا من المنفى عبر اليابان) وأصرا على إعادة فتح النقاش حول مسألة الحرب. وسرعان ما انضم بوخارين إلى موقفهما الذي كان صادرا عن طريقة تفكير ميكانيكية مجردة وغير واقعية. لقد جادلوا بأنه منذ انتهاء مرحلة المطالب الديمقراطية (بما في ذلك حقوق الأمم في تقرير مصيرها)، فإن المطلب الوحيد الذي يمكن طرحه الآن هو استيلاء البروليتاريا على السلطة. لم يؤيد أحد أطروحات بوخارين في الكونفرانس، بينما صوتت اللجنة بالإجماع لصالح توصية لينين بخصوص الحرب. وبما أن اللجنة كانت مكوّنة من لينين وزينوفييف وبوخارين، فإنه من الواضح أن بوخارين قد صوت ضد موقفه!

كما نوقش في بيرن شعار "الولايات المتحدة الأوروبية". كان هذا الشعار قد ظهر في "بيان الحرب والاشتراكية الديمقراطية الروسية"، الذي كتبه لينين خلال الأيام الأولى للحرب ونشر في العدد 40 من سوتسيال ديموكرات. كان الشعار جزءًا من النضال لإسقاط الأنظمة الملكية الرجعية، في كل من روسيا وألمانيا والنمسا- المجر. لكن لينين قام في وقت لاحق بمراجعة رأيه على أساس النقاش الذي دار في بيرن، فبعد الكونفرانس كتب لينين مقاله "حول شعار الولايات المتحدة الأوروبية"، والذي شرح فيه أن شعار الولايات المتحدة الأوربية في ظل الرأسمالية "إما مستحيل أو رجعي"، وهو الموقف الذي، على الرغم من أوهام الرأسماليين الأوروبيين اليوم، ما يزال صحيحا في الوقت الحالي. قال لينين: «إن الرأسمالية هي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وفوضى الإنتاج. والدعوة إلى تقسيم "عادل" للدخل على هذا الأساس هو نزعة برودونية محضة وتعبير عن الغباء». يمكن لمختلف الطبقات السائدة في أوروبا أن تتوصل إلى اتفاقات مؤقتة بينها لغرض تقاسم الغنائم والاستغلال المشترك للمستعمرات، مثل الاتفاق بين الفرنسيين والألمان وغيرهم من الرأسماليين بعد الحرب العالمية الثانية، لكنهم سرعان ما سينقسمون مرة أخرى حتما في فترات الأزمة. لقد سبق للينين أن شرح كل هذا مسبقا.

إن لينين يشير هنا بالتحديد بطبيعة الحال إلى توحيد أوروبا على أساس رأسمالي. إن توحيد أوروبا يبقى مسألة ضرورية، لكن لا يمكن تحقيقه إلا على يد الطبقة العاملة بعد حسمها للسلطة وتأسيس الولايات المتحدة الاشتراكية الأوروبية. كان أساس تلك المقالة، وجميع كتابات لينين في تلك الفترة، هو التأكيد بالضبط على ضرورة النضال من أجل الثورة الاشتراكية، ليس فقط في روسيا، بل في جميع أنحاء أوروبا. لكن تلك المشكلة لم يتم حلها آنذاك وتم تأجيلها للمستقبل.

هوامش:

1: LCW, To Alexandra Kollontai, vol. 35, p. 198.

2: Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p. 272.