البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب التذبذبات بين صفوف البلاشفة

واجه لينين طوال فترة الحرب الكثير من المتاعب داخل معسكره الخاص. ولم تكن تلك المرة الأولى أو الأخيرة التي يجد فيها نفسه معزولا داخل قيادة حزبه. فبعض البلاشفة، الذين كانوا أقلية على كل حال، فقدوا البوصلة تماما حتى أنهم تحولوا إلى الشوفينية، مثل أعضاء جماعة المهاجرين الباريسية الذين تطوعوا بالفعل للعمل في الجيش الفرنسي. فحتى البلاشفة أنفسهم لم يكونوا محصنين ضد ضغوطات نزعة الدفاع عن الوطن. وهؤلاء لم يكونوا مجرد أعضاء عاديين بل أعضاء القيادة البلشفية في المنفى. كان الحزب يعيش أوضاعا صعبة ولم تكن لديه حتى إمكانية تنظيم مؤتمر للمنفيين. وعلى أي حال من كان سيحضر؟ وهل كان لينين سيحقق أغلبية سياسية؟ لم يكن ذلك مضمونا. كانت هناك الكثير من المشاكل مع مختلف المجموعات المحلية للمنفيين، الذين كانت تظهر عليهم بوضوح علامات الإحباط، ولم تكن قضية مثقفي مجموعة باريس سوى تعبير واحد عن ذلك الوضع.

[Source]

إلى حد ما لم يكن في ذلك ما يثير الدهشة. إذ أن الحرب كانت قد تسببت في اندلاع الأزمة في كل أقسام الحركة العمالية. ولم يكن من الممكن ألا يجد الجو المشحون بحمى الحرب صدى له في صفوف البلاشفة. وتتذكر كروبسكايا مزاج الارتباك العام الذي ساد خلال الأشهر الأولى من الحرب، قائلة:

«لم تكن المسألة واضحة عند الناس، والذين كانوا يتساءلون في الغالب عمن هي الجهة المسؤولة عن الهجوم.

أعربت أغلبية المجموعة في باريس عن أنها ضد الحرب والتطوع للجيش، لكن بعض الرفاق: سابوزخوف (كوزنيتسوف) وكازانوف (بريتمان، سفياجين) وميشا إيديشيروف (دافيدوف) ومواسييف (إليا، زيفير)، وغيرهم؛ انضموا إلى الجيش الفرنسي كمتطوعين. وقد أصدر المتطوعون المناشفة والبلاشفة والاشتراكيون الثوريون (حوالي 80 شخصا) إعلانا باسم "الجمهوريين الروس"، والذي نشر في الصحافة الفرنسية، كما ألقى بليخانوف كلمة وداع تكريما لهم قبل مغادرتهم باريس.

لقد قامت أغلبية مجموعتنا في باريس بإدانة التطوع في الجيش، لكن المجموعات الأخرى أيضا لم يكن لديها وضوح كامل حول هذه المسألة. أدرك فلاديمير إليتش مدى أهمية أن يكون لدى كل البلاشفة في مثل تلك الفترة الخطيرة فهم واضح لمعنى ما يجري. كان من الضروري القيام بتبادل رفاقي للآراء؛ إذ لم يكن من المستساغ الخروج بموقف إلا بعد نقاش المسألة بشكل مستفيض. ولهذا السبب كتب إيليتش في جوابه على رسالة كاربينسكي التي طرحت وجهة نظر مجموعة جنيف: "ألا يشكل هذا "النقد" و"النقد المضاد" الذي قمت به موضوعا جيدا للمناقشة؟".

لقد أدرك إيليتش أن التوصل إلى تفاهم سيكون أسهل بواسطة النقاش الرفاقي عوض المراسلات. وبطبيعة الحال لم يكن ذلك وقتا مناسبا لإبقاء قضية كهذه محصورة في المحادثات الرفاقية البينية داخل دائرة ضيقة من البلاشفة».[1]

ما حدث في باريس كان حالة متطرفة معزولة. لم يسقط سوى عدد قليل من البلاشفة في مستنقع الشوفينية الصريحة. لكن البعض منهم انحرف نحو النزعة السلمية. تقدمت مجموعة الحزب في فرنسا (مونبلييه) بشعار: "فلتسقط الحرب!" و"يعيش السلام!"، وهو الموقف الذي سلط عليه لينين انتقادات حادة. لقد صب لينين، في كل كتاباته التي تعود إلى تلك الفترة، انتقادات لاذعة على النزعة المسالمة، التي اعتبر أنها تضعف عزيمة الطبقة العاملة. لم يكن شعار "السلام" هو المطلوب، بل الحرب الطبقية. وقد تكررت هذه الفكرة مرارًا في عشرات الرسائل والمقالات:

«إن شعار السلام، برأيي، غير صحيح في الوقت الحاضر. إنه شعار الكهنة والجبناء. أما الشعار البروليتاري فيجب أن يكون الحرب الأهلية».[2]

في يوليوز 1915، كتب لينين للماركسي الهولندي، ديفيد ويجنكوب، معربا له عن سعادته بأن الرفاق الهولنديين تبنوا شعار الميليشيا الشعبية، حيث قال:

«إنني أرحب بفرح شديد بالموقف الذي اتخذتموه أنت وغورتر ورافستين بشأن مسألة الميليشيا الشعبية (نحن أيضا لدينا هذه النقطة في برنامجنا). فالطبقة المستغَلة التي لا تسعى إلى امتلاك السلاح ومعرفة كيفية استخدامه وإتقان الفن العسكري، ليست سوى طبقة من العبيد».[3]

يتلخص جوهر موقف لينين من الحرب في أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب هي إسقاط الرأسمالية. وأي تصور آخر ليس في الجوهر سوى كذبة وخداع. لا يمكن لشعار "السلام" أن يلعب دورا تقدميا إلا بقدر ارتباطه الوثيق بهذا المنظور.

وقد كتب تروتسكي لاحقا:

«إن النضال الحقيقي ضد الحرب هو التحضير للثورة، هذه هي مهمة الأحزاب العمالية والأممية. يطرح الماركسيون هذه المهمة العظيمة أمام أنظار الطليعة البروليتارية بوضوح شديد. وفي مواجهة شعار "نزع السلاح" المثير للشفقة، يرفع الماركسيون شعار كسب الجيش وتسليح العمال»[4].

لقد أثبتت الثورة الروسية في عام 1917 صحة هذا الموقف. ولكن في البداية استقبل موقف لينين هذا بالشكوك بل وحتى الرفض. سادت الشكوك والترددات حتى بين الزعماء البلاشفة ذوي الخبرة. إن موقف لينين الحازم ضد الشوفينية، والذي ركز نيرانه على "الوسط"، لم يتقبله رفاقه إلا على مضض، خاصة وأن العديد منهم كانوا توفيقيين قبل الحرب. كان من الواضح أنه حتى كامنيف، وعلى الرغم من أنه كان يشغل منصبا قياديا في الحزب ومكلفا بمهمة الإشراف على العمل في روسيا، لم يكن يتفق مع سياسة لينين الانهزامية الثورية. وقد ترك سلوكه أثناء محاكمة نواب الدوما، الذين ألقي القبض عليه معهم، الكثير مما يمكن قوله وقد انتقده لينين بحدة.

قال ماكين:

«يتضح بالفعل من خلال عدة مصادر أن كامينيف كان هو من أبدى أكبر الشكوك بخصوص أطروحات لينين، لا سيما حول نشر الانهزامية. والشيء الأكثر إثارة في محاكمته في فبراير 1915 هو أنه أنكر صراحة جميع نظريات لينين حول الحرب ودعا "الاشتراكي الشوفيني" يوردانسكي إلى الدفاع عنه. لم يكن ذلك السلوك مجرد محاولة لضمان عقوبة أخف، وهو ما يتأكد من حقيقة أنه عندما داهمت الشرطة كونفرانس آخر كان ينظمه نواب بلاشفة مع عمال الحزب في 04 نوفمبر، اكتشفوا عند بتروفسكي ملاحظات أملاها عليه كامينيف كانت بمثابة تعديلات على أطروحات لينين السبعة، وكانت قبل كل شيء تتلافى الدعوة إلى الانهزامية. ويبدو أن معارضة كامينيف لشعار هزيمة روسيا كان موقفا منتشرا على نطاق واسع بين غيره من البلاشفة».[5]

على أساس تحليل نصي قام به ماكين لـ 47 من المقالات والمناشير التي أصدرها البلاشفة بشكل غير شرعي ما بين يناير 1915 و 22 فبراير 1917، وجد أنه لا يوجد ولو منشور واحد يذكر شعار هزيمة روسيا باعتبارها أهون الشرين. أشارت عشرة منشورات بعبارات قصيرة إلى ضرورة تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية وتسعة منها إلى بناء أممية ثالثة. لكن الحزب، بشكل عام، تجنب الإشارة إلى الأطروحات في كتاباته غير الشرعية، وذلك في الغالب خوفا من أن تثير ردود فعل عدائية من جانب الجماهير، وركز، كما كان من قبل الحرب، على مهاجمة سياسات الحكومة تجاه الطبقة العاملة والدعوة إلى خوض نضال ثوري ضد الأوتوقراطية باعتباره الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب، وذلك على أساس الشعارات البلشفية القديمة: جمهورية ديمقراطية ويوم عمل من ثماني ساعات ومصادرة ممتلكات طبقة النبلاء ("الحيتان الثلاثة").

هوامش:

1: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp. 285-86.

2: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 17/10/1914, vol. 35, p. 164.

3: LCW, To David Wijnkoop, vol. 35, p. 195.

4: L. Trotsky, Writings 1935-36, p. 26.

5: McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 360.