“الماركسية” الأكاديمية لمدرسة فرانكفورت: “النفاق الممنهج”

في ستينيات القرن الماضي، ظهرت العديد من الأفكار الغريبة، وخاصة في الأوساط الطلابية الراديكالية. وقد كانت أكثر تلك الأفكار ضررا وإغراقا في الخطأ هي تلك التي قدمها هربرت ماركيوز، وتيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، والتي تنص على أن “الرأسمالية الجديدة” قد طورت العديد من السبل التي تجنبها الوقوع في الأزمات الرأسمالية، وأن طبقة العمال قد تم دمجهم في هذا النظام باعتبارهم مستهلكين سلبيين في مجتمع “الرفاه”. لقد كانت هذه، كما يوضّح الرفيق دانييل مورلي، هي الأفكار الماركسية الزائفة لما يسمى بمدرسة فرانكفورت.

[Source]

إن الفكرة القائلة بأن الطبقة العاملة قد تم إفسادها وأنها صارت محافظة للغاية إلى حد أنها أصبحت عاجزة عن إنجاز الثورة الاشتراكية، كانت منتشرة على نطاق واسع ولفترة طويلة بين أوساط النخب المثقفة اليسارية وقياداتها. يقول لنا أمثال هؤلاء المثقفين “اليساريين” بأن الثورة الاشتراكية “غير واقعية”، وأنها ” جُرّبت من قبل”، والأفضل من ذلك هو أنهم يقولون إن العمال منغمسون إلى حد بعيد في الأمور المادية لدرجة أنهم أصبحوا غير قادرين على تنظيم ثورة. ويتم تقديم هذه الحجة على الدوام كما لو كانت جديدة تماما، بينما هي، في الواقع، فكرة تمت إعادة صياغتها وتناقُلها عبر أجيال من المثقفين البرجوازيين الصغار. فأولئك الذين يسعون لتبرير انتهازيتهم السياسية، دائما ما يبحثون عن طريقة لإلقاء اللوم على الطبقة العاملة.

إن مدرسة فرانكفورت، أو معهد الأبحاث الاجتماعية (Institut für Sozialforschung)، هي المسؤولة عن إعطاء مثل هذه الأفكار المفلسة مظهر المصداقية الفكرية ونشرها على أوسع نطاق. وكثيرا ما يوصف مفكروها الرئيسيون -أدورنو وهوركهايمر وماركيوز- بأنهم “ماركسيون”، وباعتبارهم، صدق أو لا تصدق، من بين أكثر الماركسيين ابتكارا في القرن العشرين. ومن خلال تأكيد هؤلاء “الماركسيين” المزعومين على أن الطبقة العاملة غير قادرة على اسقاط الرأسمالية، يوفرون غطاء شبه نظري لمثقفي اليسار المزيفين المتعجرفين للتخلي عن “راديكاليتهم”، والتأقلم مع المجتمع البرجوازي.

يشير أنصار هذا التوجه إلى واقع أن الرأسمالية ما تزال موجودة. ويؤكدون على أنها شهدت قدرا كبيرا من التغيرات منذ أيام ماركس، وبالتالي فإنه من المؤكد أن الماركسية صارت بحاجة إلى التجديد. كما يشددون على أن الطبقة العاملة قد فقدت على الأقل بعضا من “فاعليتها” الثورية، وأن ذلك نتيجة للدور القوي المتنامي للثقافة الجماهيرية[1]، والتي أغفلها ماركس. يزعمون أن “البنية الفوقية” للأيديولوجية والثقافة قد اكتسبت قدرا كبيرا من الاستقلالية عن القاعدة الاقتصادية، على عكس ما شرحه ماركس.

وللرد على هؤلاء النقاد، يجب علينا أن نبدأ بمقارنة أساسيات الفلسفة الماركسية مع أساسيات مدرسة فرانكفورت. لن تكون هذه مهمة سهلة، لأنه يبدو أن روّاد هذه المدرسة، مثلهم مثل باقي الفلاسفة البرجوازيين الصغار في القرن العشرين، يعانون حساسية تجاه شرح أفكارهم بنوع من الوضوح.

المادية التاريخية

الماركسية هي، أولا وقبل كل شيء، فلسفة مادية. هناك كون واحد فقط يتشكل من المادة. والوعي لا يوجد بشكل مستقل عن المادة، بل هو تعبير عن مادة منظمة بطريقة معينة، أي نتاج جهاز عصبي مادي.

إن المادية الفلسفية عندما تطبق على دراسة المجتمع تُصبح ما يعرف بالمادية التاريخية. وكما أوضح ماركس وإنجلز في كتابهما الأيديولوجية الألمانية فإنه:

“لابد أن يكون البشر في وضع يسمح لهم بالعيش لكي يكون في مقدورهم أن “يصنعوا التاريخ”. لكن الحياة تشتمل، قبل كل شيء، المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء أخرى عديدة. وهكذا فإن العمل التاريخي الأول هو إنتاج الوسائل اللازمة لإشباع تلك الحاجات، أي إنتاج الحياة المادية نفسها. وهذا بالفعل عمل تاريخي، وشرط أساسي في التاريخ كله، والذي لابد لنا في يومنا الحاضر، مثلما كان عليه الحال قبل آلاف السنين، تحقيقه بشكل يومي وفي كل ساعة وذلك لمجرد الإبقاء على الحياة البشرية”[2].

إن عملية “إنتاج الحياة المادية” تُلزم الناس بتطوير أدوات الإنتاج ومن ثم الدخول في علاقات محددة، “علاقات إنتاج” كما أوضح ماركس، وهذه العلاقات مستقلة عن إرادتنا. في مثل هذه الظروف، لا تتحدد الأشكال التي يتخذها المجتمع من خلال رغباتنا الواعية، أو من خلال الأفكار التي نحملها، إنما تتحدد، في نهاية المطاف، من خلال التطور المحدد لقوى الإنتاج. وعلى هذا الأساس المادي تنشأ أشكال مختلفة من الوعي. وبالتالي فإنه “ليس وعي الناس هو من يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”[3].

وبعبارة أخرى، فإن الطبقات لا تنشأ من أفكارنا، بل نتيجة لتطور قوى الإنتاج. ففي المجتمعات الطبقية ما قبل الرأسمالية، كان هناك الأرستقراطيون، والعامة، والعبيد، والنبلاء، والأتباع، والأقنان. أما في ظل الرأسمالية فينقسم المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين متعارضتين: الطبقة الرأسمالية، التي تمتلك وسائل الإنتاج، والطبقة العاملة، التي تنتج كل الثروات، لكنها لا تملك شيئا. ومن أجل الحفاظ على البقاء، يجب على العمال أن يبيعوا قوة عملهم للرأسماليين.

إن علاقات الملكية في المجتمع الرأسمالي هي التي تحدد، في آخر المطاف، وعي الطبقة العاملة. هذا لا يعني أن الأيديولوجيات لا تلعب أي دور ولا تستحق الاهتمام، وإنما يعني فقط أن الخصائص الأيديولوجية الرئيسية لمجتمع معين لا يمكن تفسيرها في نهاية المطاف إلا من خلال البنية الاقتصادية لذلك المجتمع.

عصر التنوير كله كان خاطئا

.يعتقد “ماركسيو” مدرسة فرانكفورت أن مثل هذا التفسير مبسط للغاية و”ميكانيكي” واختزالي. فمن وجهة نظرهم، فشلا ماركس وإنجلز في تقدير تأثير الثقافة والأيديولوجية البرجوازيتين، واللتان يعتبرون أنهما تتجاوزان المصالح الطبقية للطبقة العاملة، مما يجعلها طبقة خاضعة بطبيعتها للمصالح الرأسمالية.

أراد مفكرو مدرسة فرانكفورت أن يقدموا أنفسهم على أنهم مثقفين لا يقبلون أي شيء كما يبدو عليه في ظاهره، بل يعملون بلا هوادة على كشف التناقضات ليظهروا شيئا مختلفا تماما. ولهذا السبب أشاروا إلى مدرستهم باسم “النظرية النقدية”. ويعتقدون هم وأتباعهم أنهم بهذه الطريقة قد حسّنوا الماركسية، بتحريرها من الدوغمائية. كما أن تركيزهم على الثقافة وغيرها من عناصر “البنية الفوقية” الأخرى سيؤدي إلى تحديث الماركسية لتواكب القرن العشرين، الذي شهد ولادة الثقافة الجماهيرية عن طريق الراديو والتلفزيون. والسؤال هنا هو: هل قامت مدرسة فرانكفورت بتحديث وتحسين الماركسية في سبيل تقديم شرح أفضل لواقع هذا العصر الجديد من الثقافة الجماهيرية والترفيه والدعاية، أم أنها انسلخت عنها كليا؟

في كتاب “ديالكتيك التنوير”، والذي يُعتبر ربما أهم كتاب لمدرسة فرانكفورت، يشرح أدورنو وهوركهايمر بديلهما عن المادية التاريخية. بالنسبة لمدرسة فرانكفورت، يعتبر المجتمع الحديث مجتمع الهيمنة المطلقة للنظام الرأسمالي على الجماهير. ووفقا لهم فإن الارتفاع الهائل في مستويات المعيشة الذي تحقق في الغرب في فترة ما بعد الحرب، لم يسفر إلا عن شكل جديد من أشكال الهيمنة الأكثر خبثا. من المفترض أن تكون رفاهية الحياة الحديثة، والثقافة الجماهيرية التي ساهمت في نشر تلك الكماليات، قد نجحت في خلق امتثال لا مثيل له، والذي أصبح من الصعب، بشكل متزايد، على أي عامل الهروب منه. وبعبارة أخرى، فقد تم غسل دماغ الطبقة العاملة بواسطة الثقافة الشعبية، وبالتالي تكيفت مع النظام المهيمن وأصبحت إلى حد كبير جزءا منه. وبالمحصلة، يعني هذا أن الثورة الاشتراكية لم يعد من الممكن قيامها، وإن هي حدثت، فلن تفضي إلا إلى استمرار هذا القمع ذاته.

بالنسبة لأدورنو وهوركهايمر، لم يكن الامتثال والقمع الموجودان في المجتمع نتاجا للرأسمالية، بشكل أساسي، بل نتيجة للخطيئة الأصلية التي حدثت في عصر الأنوار -عصر التقدم السريع في الفنون والعلوم والفلسفة في المرحلة المبكرة للمجتمع البرجوازي- أو لنكون أكثر تحديدا: “فكر الأنوار”. كما شرحا أنه:

“ليس لدينا أدنى شك -وهنا تكمن فرضيتنا- في أن الحرية في المجتمع لا تنفصل عن فكر الأنوار . إلا أننا نعتقد أننا أدركنا بنفس القدر من الوضوح أن مفهوم هذا الفكر، مثله مثل الأشكال التاريخية الملموسة، ومؤسسات المجتمع التي يتشابك معها، يحتوي بالفعل على بذرة التراجع الذي يحدث في كل مكان اليوم”[4].

لكن قد يتساءل المرء، ما هو بالضبط “فكر الأنوار” هذا الذي أوقع المجتمع في مثل هذه العواقب الكارثية؟ كل ما يقال لنا هو إن “التنوير شمولي”[5] (Totalitarian). و”أن التنوير يتصرف إزاء الأشياء كما يتصرف الديكتاتور إزاء الناس”[6]. و”أن التنوير شمولي مثله مثل أي نظام آخر”[7].

على الرغم من الأسلوب الملتوي والتفكير المشوش الذي يميز هذا الكتاب، فإنه علينا أن نشيد بأدورنو وهوركهايمر لوضوحهما بشأن نقطة واحدة: لقد هجرا كل أثر للمادية التاريخية لصالح المثالية الصارخة. ووفقا لنظرتهما للعالم، فإن التاريخ محكوم بفكرة شمولية جبارة. وهذه الفكرة لا تعبر عن مصالح طبقة معينة، بل هي قائمة بذاتها ولها القدرة على اضطهاد المجتمع. ويقال لنا إن السمة المميزة لهذه الفكرة هي أنها تريد الهيمنة والتحكم بشكل منهجي في مواضيع العالم الخارجي وتنظيمها.

من الواضح أن “فكر الأنوار” المشار إليه هنا هو الفكر المنهجي والعلمي، أو ما سمي بـ”العقل” في القاموس الفلسفي لعصر الأنوار. وهكذا، بالنسبة لمدرسة فرانكفورت، يعتبر العقل، أو التفكير العلمي، هو مصدر الهيمنة الشمولية، وليس تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي. بالنسبة لأدورنو وهوركهايمر، العقل ليس نتاجا للمجتمع في مرحلة معينة من التاريخ، بل هو قوة فوق تاريخية ذات قوى خاصة، شيء له وجود خارج المجتمع والزمن.

من الواضح تماما أن هذه وجهة نظر مثالية في جوهرها، وتتلخص في ما يلي: كل مساوئ الرأسمالية، وعدم قدرة الاشتراكية على تحرير الإنسانية، سببها هو الطابع الشمولي المفترض للفكر العلمي.

والسؤال الذي لا يستطيعون الإجابة عنه هو: من أين تأتي هذه الفكرة ذات القوة المطلقة؟ متى ولماذا نشأت واستعبدت البشرية؟ إنهم لا يقدمون أي إجابات على الإطلاق حول هذا السؤال الحاسم، لأنهم لا يعتبرونه مهما. وعلى الأرجح فإنه، بالنسبة لهم، حتى طرح مثل هذا السؤال سيكون بمثابة خطيئة “لفكر الأنوار”، أي بمثابة محاولة لشرح الأشياء بطريقة عقلانية وعلمية.

ووفقا لهم، يريد التنوير السيطرة على الأشياء، من خلال تصنيف المعرفة علميا. لكن لماذا تؤدي السيطرة على الأشياء إلى سيطرة الإنسان على الإنسان كما يزعمون؟ يؤكد أدورنو وهوركهايمر أن “ما يريد الناس تعلمه من الطبيعة هو كيفية استخدامها بهدف السيطرة عليها وعلى الآخرين بشكل كلي. هذا هو الهدف الوحيد… السلطة والمعرفة مترادفان”[8] .

وهكذا يتم التأكيد، دون أي دليل على الإطلاق، على أن التنوير “يهيمن” على الأشياء، وبالتالي فإنه يؤدي حتما إلى مجتمع يخضع فيه البشر للسيطرة. وبطبيعة الحال، لم يتم تحديد من هم الناس الذي يسيطرون على غيرهم من الناس الآخرين .و لماذا تمكن بعض الناس من ممارسة قوة التنوير هذه، بينما البعض الآخر لم يتمكنوا؟ إن “نظريتهم”، كما هو الحال مع كل الأفكار المثالية، مجردة تماما وغامضة وتعسفية. فبعد أن تخلوا عن المادية، لم يعودوا يتعاملون مع طبقات محددة تستغل طبقات أخرى لتحقيق أهداف محددة ومشروطة تاريخيا. بالنسبة لهم لا يوجد عمال ورأسماليون، ولا أقنان وإقطاعيون، ولا عبيد وملاك العبيد؛ وبدلا من ذلك لدينا “إنسان” مجرد يهيمن على “إنسان” مجرد، وكل ذلك بفضل القوة الإعجازية “للعقل” التجريدي المطلق.

عصر الأنوار

يعتبر التنوير، في الواقع، واحدا من أعظم التطورات التي حققتها البشرية على الإطلاق، فكريا وسياسيا وفنيا. وعلى النقيض من الادعاء القائل بأن عصر الأنوار تسبب في اضطهاد لا يمكن تصوره، فإنه أطلق سيرورة التخلص من العبودية والدوغمائية والظلامية الدينية للمجتمع الإقطاعي والكنيسة. برزت خلاله كوكبة من أبطال الفكر والثقافة سعوا لتطوير العلم والفن إلى مستوى غير مسبوق وتحدوا الأحكام المسبقة والامتيازات. لم يكن الماديون الأوائل في عصر الأنوار مهووسين بـ”الهيمنة”، بل كانوا موسوعيين منفتحين يحاولون تحرير الإنسانية من الخرافات.

لم ير ماركس وإنجلز في ذلك تهديدا للطبقة العاملة، بل لقد احتفيا بصعود الفكر العقلاني، وتطور العلوم والتقنيات خلال المراحل الأولى للرأسمالية، باعتباره خطوة نوعية للبشرية إلى الأمام. وهنا بالذات يتجلى الطابع التقدمي للرأسمالية، لأنها، من خلال تطوير قوى الإنتاج، تضع الأساس للاشتراكية. فمن دون الفكر العلمي، ستكون الاشتراكية مستحيلة. إن معارضة مدرسة فرانكفورت لهذا التقدم التاريخي تعني الدفاع عن نفس التخلف والجهل والنزعة الظلامية التي دافعت عنها الكنيسة في عصر الأنوار.

من المؤكد أن مُثُل عصر الأنوار الخاصة بالحرية والعقلانية لم يكن من الممكن تحقيقها في ذلك الوقت. فقد كان هناك تناقض بين المُثُل السامية للمفكرين العظماء في ذلك الوقت، وبين الواقع المادي للمجتمع الرأسمالي الذي كانوا يساهمون في تحقيقه. إذ أن العلم والمعرفة في ظل البرجوازية يتم استخدامهما لتحقيق المزيد من الربح، وبالتالي الاستغلال. كان هذا الفهم يشكل دائما جزءا لا يتجزأ من أفكار ماركس وإنجلز. وكما أوضح إنجلز في كتابه “الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية”:

“نعلم اليوم أن مملكة العقل تلك لم تكن أكثر من مملكة النظام البرجوازي بعد أن أضفت عليه طابعا مثاليا… وأن تلك المساواة اختزلت إلى المساواة البرجوازية أمام القانون… وأن حكم العقل، عقد روسو الاجتماعي، ظهر للوجود، ولم يكن له أن يظهر إلا بكونه جمهورية برجوازية ديمقراطية. لم يكن في مقدور مفكري القرن الثامن عشر العظماء، مثلهم مثل أسلافهم، أن يتجاوزوا الحدود التي فرضها عليهم عصرهم”[9].

ما مِن شيء أصيل في ادعاء مدرسة فرانكفورت أن “التنوير” لم يحرر البشرية من الاستغلال والاضطهاد. لكن بينما أدرك ماركس وإنجلز أن الأساس الحقيقي لهذا الفشل يكمن في الطابع الطبقي للمجتمع في ذلك الوقت، فإن هذه الحقيقة استعصت على أدورنو وهوركهايمر بشكل كامل. لقد كررا، في الواقع، الخطأ المثالي نفسه الذي وقع فيه العديد من مفكري الأنوار. لقد اعتقد هؤلاء الأخيرون أن “العقل” هو شيء يتمتع به جميع البشر بطبيعتهم، وبالتالي، من حيث المبدأ، كان من الممكن تطوير أفكار الأنوار في أي مرحلة من مراحل التاريخ. وبالمثل فإن مدرسة فرانكفورت ترى أن “العقل” هو قوة مستقلة عن التاريخ ومتفوقة عليه. لكنهم وعلى عكس تفاؤل مفكري الأنوار، لم يروا في العقل إلا الهيمنة والموت.

وعلى الرغم من تجريد هذه الأفكار، فإنه ليس من الصعب أن نرى ماذا يكمن وراءها حقا. إنها أفكار المثقفين البرجوازيين الصغار المحبطين، الذين يعتبرون تطور الرأسمالية مجرد اضطهاد وكوارث. وقد لخص أدورنو وجهة نظره بهذه الطريقة: “ما مِن تاريخ عام يقود من الهمجية إلى الإنسية، لكن هناك تاريخ يقودنا من المقلاع إلى قنبلة الميغاطن. وينتهي بالتهديد الشامل الذي تشكله البشرية المنظمة على البشر المنظمين… إن الروح العالمية، وهي موضوع يستحق التعريف، يجب تعريفها بأنها كارثة دائمة”[10].

إنهم يعودون في كتاباتهم بشكل روتيني إلى عصر سابق من الحرية البرجوازية الصغيرة، أو “الاستقلال الفردي، كما يسمونه. إن الإنتاج واسع النطاق والمنظم علميا يرعب هؤلاء الأفراد البرجوازيين الصغار، كما ترعبهم الثقافة الجماهيرية. بالنسبة لهم، الفكر العلمي هو الذي دمّر المجتمع، وليس الطبقة الرأسمالية.

مثل هؤلاء المثقفين البرجوازيين الصغار عاجزون. ليست لديهم أية سيطرة على المجتمع الرأسمالي، بينما يعتقدون أنه ينبغي أن تكون لهم تلك السيطرة، بالنظر إلى مستوى تعليمهم. وهم، في الوقت نفسه، لا يرغبون في وضع أنفسهم في خدمة البديل الوحيد عن الرأسمال الكبير، أي: الطبقة العاملة المنظمة. إن القوة الهائلة للطبقة العاملة مرعبة في نظرهم. يظهر لهم العمال وكأنهم جهلة حمقى خاضعين. إنهم ينظرون بازدراء إلى الطبقة العاملة، التي يعتبرونها متواطئة في جرائم الرأسمالية بسبب “امتثالها” الساذج المزعوم لثقافة الرأسمال الكبير. إنهم يفترضون أنه في حالة استيلاء العمال على السلطة، فإن ذلك سيعني ببساطة استمرار نفس المجتمع القمعي المنظم بيروقراطيا الذي نعيشه بالفعل، وكل ذلك لأن العمال محاصرون بالعقلية الامتثالية التي يولدها الإنتاج العلمي والثقافة الجماهيرية.

إلا أن ما يعكسه هؤلاء الناس، في الواقع، هو منظور البرجوازية الصغيرة، التي هي طبقة وصلت إلى طريق مسدود تاريخيا، ومحصورة بين الرأسمال الكبير وبين الطبقة العاملة. وقد اعترف والتر بنيامين، المنتمي إلى مدرسة فرانكفورت، بذلك صراحة، حيث قال: “عاجلا أم آجلا، مع تحطيم الطبقات الوسطى إلى أشلاء بفعل الصراع بين رأس المال والعمال، سوف يختفي الكاتب “المستقل” أيضا”. وهذا هو أكثر ما يخيف هؤلاء السادة!

“العقلانية التقنية” لماركيوز

برزت مدرسة فرانكفورت، وماركيوز على وجه الخصوص، في فترة ما بعد الحرب. كان ذلك “عصرا ذهبيا” للرأسمالية، فترة نمو غير مسبوق، حيث أُعيد بناء الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. ذلك الانتعاش الطويل لم يكن ممكنا فقط بفضل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب، بل أيضا بفضل الظروف السياسية الفريدة التي أنتجتها نهاية الحرب. لقد تعرضت الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا الغربية للخيانة من قبل القادة الستالينيين والاشتراكيين الديمقراطيين، الذين تمكنوا من كبح جماح الطبقة العاملة. كانت تلك ثورات مضادة بقناع ديمقراطي. وقد وفرت تلك الهزيمة الأساس السياسي لتعافي الرأسمالية وتوسعها[11].

كما تمكنت الإمبريالية الأمريكية الناشئة من فرض هيمنتها على أوروبا الغربية. فبسبب خوفها من الثورة الاشتراكية قامت بالمساعدة على إعادة بناء اقتصادات أوروبا التي مزقتها الحرب. عملت على فرض الدولار عملة عالمية وقامت بتفكيك الحواجز الجمركية لفترة ما بين الحربين. وقد تظافرت عدة عوامل لخلق انتعاش هائل.

أدى ذلك الازدهار، الذي هو الأكبر في تاريخ الرأسمالية، إلى إنشاء توازن اجتماعي (مؤقت). ونتيجة لذلك مُنحت للطبقة العاملة تنازلات كبيرة، من قبيل دولة الرفاه. لم يتم تحقيق تلك الإصلاحات نتيجة لكرم الطبقة الرأسمالية، وإنما تحت تأثير الصراع الطبقي والخوف من الاتحاد السوفياتي.

أدت تلك التنازلات إلى تقوية الإصلاحية بشكل كبير، على الأقل في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وبالتالي عززت الأوهام حول الرأسمالية. بدا كما لو أن الرأسمالية قد تغلبت على تناقضاتها، وأن الصراع الطبقي قد تم تلطيفه أو نفيه إلى الأبد. ظهر كما لو أن تقنيات الإنتاج الحديثة، مثل الفوردية (Fordism: الإنتاج الصناعي عالي التنظيم والتخطيط والمكننة)، إضافة إلى تدخل الدولة في الاقتصاد، قد قضت على الأزمات الرأسمالية وألغت الحاجة إلى الثورة. مستويات المعيشة كانت في نمو مضطرد، كان اليوم أفضل من الأمس، وغدا سيكون أفضل من اليوم.

طوال تلك الفترة تبنت الطبقة السائدة العقيدة الكينزية، التي بشرت بتدخل الدولة في الاقتصاد لتخفيف تناقضات الرأسمالية. وبالنظر إلى أن استخدامها تزامن مع طفرة وفترة طويلة من السلام الطبقي النسبي، بدا الأمر كما لو أن السياسات الكينزية قد نجحت بالفعل في تحسين الرأسمالية، أو حلّت تناقضاتها الداخلية.

هذا هو السياق الذي سيطرت فيه، بين أوساط المثقفين، أفكار مدرسة فرانكفورت، القائلة بخمود الصراع الطبقي وبطبقة عاملة مُخَدّرة. وقد كان ماركيوز هو الأكثر وضوحا في ربطه رفض المدرسة للمادية التاريخية بعصر الازدهار الرأسمالي ذاك. فوفقا له، كشفت الطبيعة القمعية للعقل عن نفسها خلال حقبة ما بعد الحرب على أنها “عقلانية تقنية”، و”أن العالم الشمولي للعقلانية التقنية هو أحدث تحويل لفكرة العقل”[12]. ولكن ما هي “العقلانية التقنية”؟ وكيف تعمل؟

كل ما يقال لنا عن هذه “العقلانية التقنية” الغامضة هو أنها مسؤولة عما يصفه ماركيوز بـ”العبودية المريحة والسلسة والمعقولة الديمقراطية “، التي “تسود في الحضارة الصناعية المتقدمة، وهي رمز للتقدم التقني” و”يبدو أنها قادرة باستمرار على تلبية احتياجات الأفراد من خلال الطريقة التي يتم تنظيمها بها”[13]. أو بعبارة أخرى، فإن طريقة للتفكير –هي “العقلانية التقنية”- قد أحدثت طفرة ما بعد الحرب، والتي على الرغم من أنها أدت إلى رفع مستويات المعيشة وزيادة حجم الطبقة العاملة، فإنه يراها شيئا سلبيا[14].

ويُقال لنا إن “العقلانية التقنية” فعالة للغاية، إلى درجة أن الأزمات الرأسمالية أصبحت شيئا من الماضي. وعلى الرغم من أن الرأسمالية مازالت قائمة، فإن قوانين الرأسمالية قد تم احتواؤها من قبل هذا التنظيم العقلاني المكتشف حديثا، والذي تمكن من توفير “الوعد بحياة أكثر فأكثر رخاء لعدد متعاظم دوما من الناس”، الذين صاروا، نتيجة لذلك، “غير قادرين على تصور عالم مختلف اختلافا نوعيا”[15].

ووفقا لماركيوز فإنه: “إذا كان العامل ورب عمله يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني ويترددان إلى المنتجعات ذاتها، وإذا كانت السكرتيرة ترتدي ثيابا لا تقل أناقة عن ابنة صاحب العمل، وإذا كان الزنجي يمتلك سيارة من طراز كاديلاك، وإذا قرأوا جميعا نفس الصحيفة، فإن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات، بل يدل على مدى تقاسم الاحتياجات والإشباعات التي تخدم الحفاظ على المنظومة من قبل السكان التابعين”[16].

نرى هنا التحيزات الرجعية لمدرسة فرانكفورت واضحة تماما: لادعائهم أن “الزنوج” يمتلكون عموما سيارات كاديلاك ويعيشون حياة مماثلة لأعضاء الطبقة السائدة، و أن الجماهير العاملة متواطئة في “الحفاظ على المؤسسة”.

ينبع الخطأ الأساسي من افتراض ماركيوز المثالي بأن ما يسمى بأيديولوجية “العقلانية التقنية” قد تغلبت على التناقضات الطبقية المادية.

وما تشير إليه “العقلانية التقنية” في الواقع هو أيديولوجية الكينزية وتدخل الدولة، التي كانت المذهب الاقتصادي السائد في الغرب. ومثله مثل جميع المثقفين البرجوازيين الصغار، وقف ماركيوز مندهشا أمام الاتجاه الفكري في عصره الاستثنائي. بالنسبة لماركيوز، يعتبر الصراع الطبقي مسألة ثانوية أمام قوة “العقلانية التقنية” (أي السياسات الكينزية)، والتي افترض أنها يمكن أن تستمر ببساطة في تقديم السلع، ورفع مستويات المعيشة وتجنب أزمات فائض الإنتاج بشكل دائم بفضل عقلانيتها العالية.

وفي هذا الصدد، يردد ماركيوز ومدرسة فرانكفورت الفكرة الرائجة القائلة بأن توفر التكنولوجيا الاستهلاكية للطبقة العاملة، كسيارات الكاديلاك وأجهزة التلفزيون، يذهلها ويدفعها لقبول استغلالها في ظل الرأسمالية. وإذا كانت الرأسمالية قادرة على جعل مثل هذه السلع متاحة بالقدر الكافي، فمن المؤكد أنه لن يكون هناك أحد يرغب في الإطاحة بها؟ وهذا يعني ضمنا أن أي عامل لديه جهاز تلفزيون -أو هاتف آيفون- يجب أن يكون راضيا ويتمتع بمستوى معيشي جيد.

من البديهي لأي ماركسي أنه مهما كان الازدهار الاقتصادي قويا، فإنه لن يقضي بأي حال من الأحوال على تناقضات الرأسمالية والصراع الطبقي. في الواقع، لقد كان نهوض الطبقات العاملة الفرنسية والإيطالية في حركات ثورية ضخمة، أثناء ذروة ازدهار ما بعد الحرب، بين عامي 1968 و1969، الأمر الذي أحدث موجة صدمة في جميع أنحاء العالم.

وفي الوقت نفسه، كان الازدهار يمهد لوقوع أزمة ضخمة من فائض الإنتاج. إن الزيادات المتواصلة في مستويات المعيشة أمر مستحيل في ظل الرأسمالية، لأن الرأسمالية ليست عقلانية ولها حدودها. وطالما أن الرأسمالية موجودة، فإن الإنتاج سيتم لتحقيق الأرباح للطبقة الرأسمالية، وليس لتلبية احتياجات المجتمع ككل بشكل عقلاني. ولكن حتى عندما ترتفع مستويات المعيشة، فإن السوق تظل محدودة لكون الطبقة العاملة غير قادرة على إعادة شراء القيمة التي خلقتها.

وهكذا يصل السوق في النهاية إلى الحد الأقصى لقدرته على امتصاص كل تلك السلع الجديدة. يراوغ الرأسماليون هذا التناقض من خلال إعادة استثمار فائض القيمة المستخرج من العمل غير مدفوع الأجر للطبقة العاملة. إلا أن هذا لا يؤدي ببساطة إلا إلى خلق قدرة إنتاجية أكبر وكميات أكبر من السلع. وفي النهاية تندلع أزمة فائض الإنتاج.

انتعاش ما بعد الحرب، الذي أعجب به ماركيوز، لم يكن مختلفا. ما الذي حدث لـ “عقلانية ماركيوز التقنية” عندما انتهى ذلك الانتعاش، وماذا حدث لـ”للعبودية السلسة والمريحة” و”المصالح المشتركة” للطبقات المتناقضة سابقا؟ كل ذلك تبخر أثناء ركود 1974-1975 وحدة الهجوم الرأسمالي ضد الطبقة العاملة.

صحيح أن العمال الغربيين احتفظوا بتلفزيوناتهم وسياراتهم، لكنهم في كثير من الحالات لم يحتفظوا بوظائفهم، مع عودة تفشي البطالة الجماهيرية. إن ما يسمى بـ “المصالح المشتركة” بين العمال والرأسماليين في الحفاظ على “العقلانية التقنية” تبيّن أنها مجرد وهم قاس، لا يعتنقه الرأسماليون بقدر ما يتبناه القادة الإصلاحيون للطبقة العاملة، وفئة من المثقفين من أمثال ماركيوز.

الركود الاقتصادي العالمي، الذي شهده العالم عام 1974، لم يتوقعه ماركيوز ولا أتباع كينز. كان الماركسيون هم وحدهم من فهموا حتمية مثل تلك الأزمة. لقد أدت تلك الأزمة إلى ضرب مصداقية الكينزية وأقنعت الرأسماليين بالتحول إلى النظرية النقدية، والهجوم على الإصلاحات التي كانت الطبقة العاملة قد اكتسبتها في السابق.

وهذا بدوره أفضى إلى عقد من احتداد الصراع الطبقي في السبعينيات والثمانينيات. وعلى الرغم من امتلاكهم لأجهزة التلفزيون ومشغلات الفيديو، فقد ناضل العمال بكفاحية ضد محاولة الطبقة السائدة جعلهم يدفعون ثمن الأزمة الرأسمالية. لا شك أن ارتفاع مستويات المعيشة والسلع الاستهلاكية والثقافة البرجوازية يمكنها أن تؤثر على الوعي الطبقي، بل وتكبحه لبعض الوقت. إلا أن هذه ليست سوى ظاهرة مؤقتة. وعندما تنتهي الطفرة وتبدأ حقبة الأزمة، كما حدث في السبعينيات، يتعزز الوعي الطبقي مجددا.

وكملاحظة جانبية، لقد استخدم هوبزباوم وآخرون نفس الادعاء قبل إضراب عمال المناجم، بين عامي 1984 و1985، في بريطانيا، حيث أدعوا أن عمال المناجم الشباب لن يقوموا أبدا بالإضراب لأن لديهم قروضا عقارية وأجهزة فيديو وسيارات وما إلى ذلك. لكن ورغم ذلك، عندما حان الوقت، أضرب عمال المناجم لمدة 12 شهرا دفاعا عن وظائفهم ومجتمعاتهم، مما أثبت خطأ هوبزباوم وماركيوز.

واليوم، بعد عقود من التقشف، والخصخصة، وإلغاء القيود التنظيمية، وتفاقم التفاوتات، والأزمات المالية، ناهيك عن أزمة المناخ المحدقة، فإن فكرة أن الرأسمالية قد حققت “عبودية سلسة ومريحة”، و”توافقا عقلانيا” بين الطبقات ينتج نموا لا نهاية له، قد فقدت مصداقيتها تماما.

ازدراء الطبقة العاملة

من المعتاد أن نسمع من “اليسار” الأكاديمي أن الماركسية نظرية اقتصادوية أو “اختزالية” طبقيا. والمقصود بهذا هو أن ماركس قد قام باختزال جميع المسائل الاجتماعية والسياسية إلى مسائل اقتصادية، وتجاهل الدور الهام للثقافة والأيديولوجية في التاريخ. هذه، بالطبع، صورة كاريكاتورية زائفة عن الماركسية، كما أوضح إنجلز ذلك بجلاء، حين قال:

” وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يشكل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية العنصر الحاسم، في نهاية المطاف، في التاريخ. ولم نؤكد، لا ماركس ولا أنا، أكثر من هذا أبدا. وبالتالي فإذا شوه شخص ما هذا الموقف، ليزعم أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد، فإنه يحول هذه الموضوعة إلى جملة مجردة لا معنى لها ولا مضمون. إن الوضع الاقتصادي هو الأساس، لكن العناصر المختلفة للبنية الفوقية –الأشكال السياسية للصراع الطبقي ونتائجه، أي: الدساتير التي تضعها الطبقة المنتصرة بعد معركة ناجحة، الخ. والأشكال القانونية، وحتى انعكاسات كل هذه الصراعات الفعلية في أدمغة المشاركين، والنظريات السياسية والحقوقية والفلسفية والآراء الدينية، وتطورها الإضافي إلى منظومات عقائدية، تمارس بدورها تأثيرها على مسار الصراعات التاريخية، وتساهم في كثير من الحالات في تحديد شكلها. هناك تفاعل بين كل هذه العناصر، وسط كل هذه المجموعة التي لا نهاية لها من الحوادث (أي، من الأشياء والأحداث التي يكون ترابطها الداخلي بعيدا جدا، أو من المستحيل إثباته بحيث يمكننا اعتبارها غير موجودة ولا تكاد تذكر). تؤكد الحركة الاقتصادية نفسها في النهاية على أنها ضرورية. وإلا فإن تطبيق النظرية على أي فترة من التاريخ سيكون أسهل من حل معادلة بسيطة من الدرجة الأولى”[17].

لكن أصدقائنا في الأوساط الأكاديمية لا يحبون أن تقف الحقائق في طريق القصص الجميلة، ولذلك يفضلون تجاهل ما قيل أعلاه وتقديم الماركسية باستمرار على أنها “اختزالية اقتصادية”. وعلى أساس هذا الكاريكاتير، يصير من الممكن تقديم مدرسة فرانكفورت على أنها قطيعة مع الماركسية “الأرثوذوكسية”، بفضل اعترافها بالأهمية المتزايدة للثقافة والأيديولوجية والدعاية، والتي تعمل على ما يبدو على تحديث الماركسية. لكن الحقيقة، في الواقع، هي عكس ذلك تماما: إن مثالية مدرسة فرانكفورت تؤدي إلى “حتمية ثقافية” متشددة. وبدلا من أن تكون لديهم نظرية شاملة للمجتمع، فإنهم يحصرون تركيزهم على التحليل الثقافي، الذي لا يعدو كونه مجرد هجوم مستتر على الطبقة العاملة.

ينحط “تحليلهم الثقافي” إلى مستوى شكاوى مكثّفة من مدى سوء وارتباك الثقافة الجماهيرية التي يفترضون أن جميع العمال يقعون تحت تأثيرها. ويشتكي أدورنو وهوركهايمر من أن “عجز الجماهير وامتثالها يتزايدان مع زيادة كمية السلع المتاحة لها”[18]، وأن “الجماهير المخدوعة أصبحت اليوم مفتونة بأسطورة النجاح أكثر من الناجحين أنفسهم. إنها متشبثة بعناد بنفس الإيديولوجية التي تستعبدها”[19].

وعندما تمت إعادة نشر كتاب “ديالكتيك التنوير” في عام 1969، كتب أدورنو وهوركهايمر مقدمة جديدة ذكرا فيها أن التشخيص الرئيسي للكتاب -أي فكرة انتفاء تطور الوعي الطبقي والاضطرابات الثورية- “قد تم تأكيدها بشكل حاسم”! يبدو أنهما لم ينتبها إلى أنه في ماي 1968 (أي قبل عام واحد فقط من نشر ما ورد أعلاه)، أضرب أكثر من 10 ملايين عامل فرنسي، واستولوا على المصانع، وكان بإمكانهم الإطاحة بالرأسمالية لولا الخيانة التي تعرضوا لها من قِبل القادة الستالينيين للحزب الشيوعي الفرنسي. شهد عام 1968 والسنوات التالية موجة من الحركات الراديكالية والثورية في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك فإنه، في تلك اللحظة بالتحديد، نجد هؤلاء السادة يدعون أنه “تم التأكيد بشكل حاسم” أن الطبقة العاملة قد أُفسدت بشكل كامل من قبل وسائل الإعلام الجماهيرية وارتفاع مستويات المعيشة.

والشيء الأكثر دلالة هو المقال الذي كان هوركهايمر قد كتبه سابقا حول وعي الطبقة العاملة. ففي عام 1927، كتب هوركايمر مقالا بعنوان “عجز الطبقة العاملة الألمانية”، جادل فيه بأن العمال الألمان لا يستطيعون القيام بثورة لأن وعيهم منقسم بين العمال الأفضل حالا (والأكثر محافظة)، والعمال الفقراء الثوريين، لكنهم يساريين متطرفين. لاحقا، في عام 1929، أطلق هوركايمر وإريك فروم مشروعا للبحث في ما زعما أنه ميل عند الطبقة العاملة الألمانية في أن يهيمن عليها قادة استبداديون. اتخذ ذلك “المشروع” شكل استبيان، حاولا فيه إخضاع الطبقة العاملة الألمانية لاختبار شخصية لمعرفة ما إذا كانت بالمستوى المطلوب. لم يكن من المستغرب أن تخرج تلك الدراسة باستنتاج أن العمال الألمان لم يكونوا يتمتعون بعقلية مستقلة بما يكفي لتحرير أنفسهم.

والحقيقة التي برزت بشكل ملفت للنظر هي أن كلا المقالين كتبا بعد أقل من عقد على الثورة الألمانية 1918-1923، والتي ناضل خلالها ملايين العمال بشراسة النمور من أجل الإطاحة بالرأسمالية، وهو الشيء الذي يبدو أن هؤلاء “الماركسيين” غافلون عنه تماما! قام العمال والجنود آنذاك ببناء هيئاتهم الديمقراطية المباشرة، مجالس العمال، التي تم تشكيلها بالآلاف في جميع أنحاء البلاد.

في الواقع، لقد فعل العمال الألمان بشكل عفوي كل ما هو ضروري للإطاحة بالرأسمالية. وكانت السلطة في أيديهم بفضل مبادرتهم وتنظيمهم ووعيهم الثوري. لكن السبب الوحيد لعدم تحقيق الإطاحة بالرأسمالية كان هو الخيانة المتعمدة من قبل القادة الاشتراكيين الديمقراطيين، وليس ما يسمى بـ “رجعية” و”تدني مستوى الوعي” لدى الطبقة العاملة. هذا هو السبب الحقيقي الوحيد لبقاء الرأسمالية في ألمانيا عندما برزت مدرسة فرانكفورت، وليس “الامتثالية” المزعومة للطبقة العاملة.

إن الأحداث الضخمة للثورة الألمانية عام 1918، والإضراب العام الثوري ضد انقلاب كاب، والوضع الثوري عام 1923، كانت جميعها بالتأكيد هي الأدلة التجريبية التي يحتاجها هؤلاء “الماركسيون” المزعومون لكي يفهموا أن العمال الألمان لديهم القدرة على امتلاك الوعي الثوري. لكن هوركهايمر وفروم تجاهلا تلك الأحداث، ووضعا مقياس حرارة تحت لسان الطبقة العاملة، وأعلنا أن مرضها قاتل.

في مسحهما الذي قاما به عام 1929 لدراسة عقلية العمال الألمان، استنتج هوركهايمر وفروم أن العمال غير قادرين على التفكير المستقل، ولديهم عوضا عن ذلك ميول إلى أن يهيمن عليهم زعيم استبدادي، وقد تزامن ذلك مع صعود هتلر، وهو الحدث الذي لم يكن ممكنا إلا بفعل السياسة العصبوية التي تبنتها قيادة الحزب الشيوعي ونظريتها حول “الاشتراكية الفاشية”[20]. ليس من المستغرب أنه في تلك اللحظة، بعد الهزيمة التاريخية للثورة الألمانية، صارت الطبقة العاملة الألمانية منقسمة ومشوشة. لكن ما الذي كانت ستكون عليه نتائج “الاستبيان” لو أنه أجري عام 1918 أو 1920 أو 1923، في ذروة الموجة الثورية؟

لم يأخذ هوركهايمر وفروم في الاعتبار على الإطلاق تلك الأحداث وعواقبها. وفي الواقع، فإن هؤلاء “الماركسيين” المزعومين لم يذكرا الثورة الألمانية مطلقا! ولا يمكن أن يُعزى هذا الإغفال الخطير إلى خطأ بريء. فقد كانت وجهات نظرهما انعكاسا لازدراء البرجوازية الصغيرة للجماهير العاملة. لقد أقرا بالفعل أن العمال الألمان متخلفون ورجعيون.

في الواقع، لا يوجد دليل على أن هؤلاء “الماركسيين” قد آمنوا أصلا بقضية الاشتراكية والصراع الطبقي. لم تكن تلك المقالات والاستطلاعات المبكرة سوى محاولة لحشد كل ما يمكنهم من “الحقائق” لتبرير موقفهم.

وهذا لا يكشف فقط عن زيف “ماركسيتهم”، بل يكشف أيضا عن الفلسفة الميكانيكية الجامدة التي يتبنونها بالفعل، على الرغم من إعلانهم الإعجاب بالـ”ديالكتيك”. بالنسبة لهم لم يكن من الضروري لفهم الطبقة العاملة أن يعملوا على دراسة تاريخها، ناهيك عن الاندماج معها. بل اكتفوا، بدلا من ذلك، بتقديم استبيانات عن العمال أو انتقاد ميولهم الثقافية. كما لم يول أي من منظري مدرسة فرانكفورت أدنى اهتمام للأحداث الحقيقية والنشاط الواقعي للطبقة العاملة، حتى وهي تجري أمام أعينهم.

وهذا هو الحال دائما بالنسبة لـ”اليسار الأكاديمي” ككل، الذي يلوم الطبقة العاملة دائما على أن وعيها منخفض جدا وأنها متخلفة للغاية. إنهم يتجاهلون الأحداث الحقيقية العاصفة في الصراع الطبقي باستخدام ذلك “التفسير” الثقافي الشامل لهزائم الطبقة العاملة. وبهذه الطريقة يبررون الخيانات السابقة للقادة الستالينيين والاشتراكيين الديمقراطيين. هذه هي الوظيفة الحقيقية لمدرسة فرانكفورت.

كان انتصار الفاشية، من وجهة نظرهم، نتيجة حتمية لأنها “أخذت الناس ببساطة على ما هم عليه، باعتبارهم أبناء حقيقيين للثقافة الجماهيرية الامتثالية اليوم، ولكونهم سُلبوا إلى حد كبير من استقلالهم وعفويتهم”[21]. أما انحطاط الستالينية، المرتبط بنظريتها عن الاشتراكية الفاشية، ودور الاشتراكية الديمقراطية، فليس لهما أي تأثير من وجهة نظرهم. لذا فإنه لا يمكنك أن تتعلم شيئا من مثل هذه “المدرسة”.

ليس الماركسيون هم الاختزاليون المتصلبون. وليس هناك من تصلب أكثر تزمتا من تجاهل الأحداث الحقيقية أو التستر عليها والبحث بدلا من ذلك عن تفسيرات في “الثقافة” والأيديولوجية المجردة، كما لو أن وعي العمال يظل كما هو بين الثورة والهزيمة.

بالنسبة للماركسيين الأكاديميين، ليست هناك حاجة لفهم الأحداث المعقدة التي وقعت في الفترة من 1918 إلى 1933 والتي أدت إلى صعود النازية، بل يكفي ببساطة الإعلان أن العمال أغبياء. وهذا بالنسبة لهم كافٍ لتفسير أهوال الفاشية.

وغني عن القول إن نظريات مدرسة فرانكفورت لم تؤد إلى أي نشاط سياسي عملي على الإطلاق: إذ يجب على الطبقة العاملة أن ترفع وعيها إلى مستوى مثقفينا في مدرسة فرانكفورت و”لا امتثاليتهم” قبل أن يصير هؤلاء الأخيرون على استعداد لفعل أي شيء لمساعدتها.

وقد كان ماركيوز واضحا تماما بشأن هذا الاستنتاج في كتيبه الصادر عام 1969 بعنوان “مقالة حول التحرر”، حيث يقول:

“إن القطيعة مع استمرارية الاحتياجات المحافظة ذاتية الدفع يجب أن تسبق الثورة التي ستبشر بمجتمع حر”[22]. وهكذا فإن مدرسة فرانكفورت، وفي تناقض تام مع المادية الماركسية، تعتقد أن الثورات لا يمكن القيام بها إلا بعد أن يكون العمال قد رفعوا، بطريقة أو بأخرى، مستواهم الفكري إلى مستوى الاشتراكية.

أما بالنسبة للماركسيين، فإن الواجب الأسمى هو المساعدة في رفع وعي الطبقة العاملة لفهم المهام التي يفرضها التاريخ، وذلك من خلال المشاركة معها في الواقع. ومن البديهي أنه قبل تلك التجارب، لن يُتاح للعمال فرصة رفع وعيهم إلى مستوى الاشتراكية، لأن الأحداث نفسها هي وحدها التي تساعد على إنتاج مثل ذلك الوعي. لكنه من المستحيل مساعدة العمال على ذلك من خلال التعامل معهم بغطرسة واحتقار، وهو الموقف الذي أتبعته مدرسة فرانكفورت بوضوح شديد.

أيديولوجية البرجوازية الصغيرة

لدى البحث حول خلفيتهم الطبقية، وشخصياتهم، والأهم من ذلك، حول سبب وجود المدرسة، فسنجد أن “النظرية النقدية” هي عصارة الفكر البرجوازي الصغير. لقد تأسست المدرسة بهدف واضح هو تحرير أنصارها من تأثير الطبقتين المتصارعتين في المجتمع الرأسمالي: البرجوازية والبروليتاريا. وقد اعتبر أعضاؤها أن الحفاظ على الاستقلال التام عن المجتمع شرط مسبق لتطوير تلك النظرية.

وهذا يوضح عقلية المثقف “الراديكالي” البرجوازي الصغير، الذي لا يرغب في أن يعرقل “العوام” مسيرتهم الأكاديمية. ففي جميع أعمالهم، هناك قلق دائم من فقدان استقلالهم الفردي على أيدي الأغلبية الممتثلة (أي الطبقة العاملة). لقد عملوا كل ما في وسعهم للحفاظ على استقلالهم البورجوازي الصغير المتغطرس عن الحركة العمالية. كتب ستيوارت جيفريز سيرة كاملة عن المدرسة، بعنوان “هاوية النُزل العظيم” (Grand Hotel Abyss)، والتي تكشف بدقة نظرتهم البرجوازية الصغيرة. فقد أوضح أنهم “لم يشعروا قط أن التفاعل الشخصي بين العمال والمثقفين سيكون مفيدا لأي منهم”[23].

بالنسبة لأمثال أدورنو وهوركهايمر، كانت المشاركة السياسية من أي نوع تعتبر على أنها أمر محرج للغاية. كانوا ينظرون إلى أي اتصال بالطبقة العاملة على أنه عامل مفسد يجب تجنبه بأي ثمن. وقد اشتكى أدورنو من أنه “من الصعب حتى التوقيع على المناشدات التي يتعاطف المرء معها، لأنها برغبتها الحتمية في إحداث تأثير سياسي، سوف تحتوي دائما على عنصر من الكذب”. ومضى يقول إن عدم التزام المرء بمثل تلك التصريحات السياسية هو أمر أخلاقي، “لأنه يعني الإصرار على استقلالية وجهة نظر الفرد”[24]. وقد استبسل هوركهايمر في وقفته التضامنية مع رفض أدورنو الجسور لوضع الأفكار موضع التنفيذ، حيث قال: “هل النشاط إذن، وخاصة النشاط السياسي، هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الإنجازات؟ أتردد في قول ذلك… يجب ألا تتحول الفلسفة إلى دعاية، حتى ولو كان ذلك من أجل أسمى هدف ممكن”[25].

إلا أنه كانت هناك ذبابة في كأس أبطال الحرية الفكرية الشجعان هؤلاء. كيف يمكن لمجموعة من المثقفين أن تحافظ على استقلالها التام عن الطبقة العاملة “الوضيعة المنصاعة”؟ إذ لابد لهم أن يحصلوا على المال، ولابد أن يأتي ذلك المال من مكان ما. إذن من أين كان يأتي تمويل مدرسة فرانكفورت؟

كانت مدرسة فرانكفورت، باعتبارها توجها أكاديميا، مرتبطة بالجامعة، التي ارتبطت بدورها بالدولة البرجوازية. بينما كان معهد البحوث الاجتماعية (The Institut für Sozialforschung)، مستقلا عن جامعة فرانكفورت، بالرغم من ارتباطه بها، وكان في أوج نشاطه تحت إدارة هوركهايمر، وذلك بفضل أموال المليونير المتعاطف، فيليكس ويل.

وفي عام 1935، عندما نُفيت المدرسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حرصت على إعادة تأسيس علاقتها المستقلة مع إحدى الجامعات المرموقة، والتي كانت حينها هي جامعة كولومبيا. كتب مارتن جاي، مؤلف السيرة الأكثر دقة لمدرسة فرانكفورت، “من الواضح تماما أن المعهد شعر بعدم الأمان في أمريكا لذا فقد سعى لأن لا يعرض موقفه للخطر”. وقد قامت المدرسة بذلك عن طريق عدة أمور من بينها تحرير مقالات والتر بنيامين “في اتجاه أقل راديكالية”، وتغيير مصطلح “الشيوعية” بـ”القوى البناءة للبشرية” وتم تغيير “الحرب الإمبريالية ” بـ” الحرب الحديثة “[26]. وخلال الحرب، أصر هوركهايمر على إزالة كلمتي “ثورة” و”ماركس” من جميع الصحف التي ينشرونها حتى لا يخيفوا الجهات الراعية لهم[27].

وفي فترة ما بعد الحرب، استقبلت المدرسة جيلا جديدا من الأكاديميين. ومن المؤكد أن الكثيرين منهم انجذبوا إليها بفعل سمعتها باعتبارها “ماركسية” أو راديكالية على الأقل. أحد تلك الشخصيات كان يورغن هابرماس، الذي حاول في شبابه تقديم أوراق ذات موقف ثوري صريح من أجل نشرها عن طريق المدرسة. لكن هوركهايمر رفض نشرها، وكان منزعجا للغاية من سذاجة هابرماس التي جعلته يعتقد أن هذا هو الشيء الذي قد يقومون به، فكتب قائلا: “إنه ببساطة، ليس من الممكن قبول هذا النوع في تقارير البحث لمعهد يعيش على التمويل العمومي لمجتمع مقيد”. إلا أن السبب المحدد لعدم نشرها كان أكثر دلالة: ففي ذلك الوقت، كان لدى المدرسة عقد بحثي مع وزارة الدفاع الألمانية (!) ولم ترغب في أن يسبب ذلك نفور الوزارة![28]

لا بد أن العمل مع المؤسسات العسكرية للدولة البرجوازية كان مربحا للغاية، لأنه كان على ما يبدو موضوعا أساسيا لمدرسة فرانكفورت. أحد أوائل مفكري المدرسة، الذي هو هنريك غروسمان، كان مشاركا في مفاوضات بريست-ليتوفسك التي أنهت مشاركة روسيا الثورية في الحرب العالمية الأولى. إلا أنه لم يكن ضمن فريق تروتسكي يساعد أول دولة عمالية في العالم في صراعها ضد الإمبريالية. بل كان يقوم بإعداد ملخصات لوزير خارجية النمسا- المجر، الكونت تشيرنين، في سعيه الحثيث لسحق الثورة الروسية. وقد يظن المرء أنه كان سينتهز الفرصة للتكفير عن هذه الخطايا عندما اندلعت الثورة في النمسا بعد عام واحد، لكن “ليس هناك ما يشير إلى أنه شارك” في تلك الأحداث[29].

حصل ماركيوز كذلك على عمل مع المؤسسة العسكرية. فخلال الحرب العالمية الثانية، كان قادرا على الاستفادة من سمعته كناقد ثقافي للحصول على وظيفة محلل استخباراتي في مكتب الخدمات الإستراتيجية الذي سبق وكالة المخابرات المركزية. وعلى الرغم من ادعائه أن ذلك كان للمساعدة في إلحاق الهزيمة بالنازيين، فقد استمر في منصبه في وزارة الخارجية الأمريكية حتى بعد انتهاء الحرب عام 1951. ولا عجب أن يكتب ستيوارت جيفريز في سيرته عن المدرسة “أن مدرسة فرانكفورت لم تكن إلى حد بعيد معهدا ماركسيا، إنما يمكن اعتبارها نفاقا ممنهجا، وخروفا محافظا في زي ذئب راديكالي”[30].

اعتقد رواد مدرسة فرانكفورت أن بإمكانهم إبعاد أنفسهم عن تأثير مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي، وإخضاعها جميعا لانتقادات قاسية. إلا أن أفعالهم وأفكارهم تقف شاهدا على استحالة هذا الوهم البرجوازي الصغير. لا يمكنهم العمل في عزلة. إن البرجوازية الصغيرة عالقة بين الطبقة العاملة والبرجوازية، وعليها أن تقرر أي جانب ستدعم. ومن الناحية العملية، كانت مدرسة فرانكفورت جزءا لا يتجزأ من المجتمع البرجوازي، على الرغم من شكواهم الصارخة من هذه الحقيقة. وسرعان ما وجد هذا تعبيره في أفكارهم، التي لا تعدو أن تكون مجرد محاولة لتشويه سمعة الطبقة العاملة وإرباكها.

إن كون الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة المهتمة بدفع الإنسانية إلى الأمام، هو بالضبط ما يجعلها تحتاج إلى أفكار صحيحة موضوعيا. إن الأوهام والأكاذيب لا فائدة منها في النضال من أجل الإطاحة بالرأسمالية، ولهذا السبب بالضبط لا تدخر الطبقة الرأسمالية أي جهد في نشر أكاذيبها ونشر الارباك.

ومن الأمثلة الجيدة على انتشار هذا الارباك هو المقرر الدراسي النموذجي في علم الاجتماع الذي يلقن للطلاب الشباب أن مدرسة فرانكفورت هي نسخة حقيقية عن الماركسية. ولسوء الحظ، فإن هناك دائما شريحة من الطلاب البرجوازيين الصغار الذين ينخدعون بهذا الهراء، وبالتالي ينمو لديهم نتيجة لذلك ازدراء ساخر للماركسية الثورية الحقيقية. فيعملون، سيرا على خطى مدرسة فرانكفورت، على صنع مسار مهني أكاديمي، حيث تبقى “راديكاليتهم” مجرد كلام فحسب. ويقضون حياتهم في الأبراج الأكاديمية العاجية، حيث يلوكون خطابات معادية للماركسية.

العودة إلى الماركسية الحقيقية

“الدليل على وجود الكعكة هو أكلها”، كما كان إنجلز يقول. إن النظريات الماركسية غيرت مجرى التاريخ. وما تزال الأفكار الواردة في “البيان الشيوعي” راهنية بشكل مُدهش حتى يومنا هذا، وذلك على عكس النظريات الليبرالية التي تعود لتلك الفترة. لقد شرحت الأساس الحقيقي للصراع الطبقي والأزمات الدورية للرأسمالية، وتوقعت التطور المستقبلي للنظام الرأسمالي: ظهور رأس المال الاحتكاري والإمبريالية والعولمة. وأي شخص يريد أن يفهم الأزمة الحالية، من تصاعد حدة اللامساواة بين الطبقات اليوم إلى الاستقطاب السياسي، وحتى تدمير البيئة، يجب عليه أن يدرس أفكار ماركس وإنجلز. إنها فلسفة ديالكتيكية ثورية حقيقية: فلسفة تشرح التناقضات الرئيسية للمجتمع. لم يقتصر ماركس وإنجلز على تفسير التيارات السائدة في عصرهما، بل أدركا كيف سيتحول المجتمع في المستقبل.

ما هو نوع التأثير الذي أحدثته “النظرية النقدية”؟ كيف تم استخدامها، وما مدى دقة تفسيرها للتطور اللاحق للرأسمالية؟ من المؤكد أن “النظرية النقدية” بدأت بتقديم ادعاءات مغالية. وأعلنت بجرأة أنها ستأخذ الفلسفة الديالكتيكية إلى ما هو أبعد من “الدوغمائيات الماركسية التي عفا عليها الزمن”، والتي أُخضعتها “لانتقادها” الشديد. وبسبب عدم رضاهم عن المظاهر، فقد كشف أدورنو وهوركهايمر وماركيوز عن الطبيعة العابرة والناقصة لكل شيء. وعوض أن يكتفوا بالقوانين الاقتصادية، التي زعموا أن الماركسية قد اختزلت التطور البشري إليها، فقد ادعوا أنهم سيفتحون آفاقا جديدة للنظرية، وسيسلطون الضوء أخيرا على الجوانب المخفية المفترضة في الماركسية، مثل علم النفس والثقافة الجماهيرية. لذا فقد وعدوا بإعطاء “نظرية نقدية” شاملة للمجتمع.

وماذا كانت النتيجة؟ بدلا من إعداد نظرية شاملة، كان كل ما أظهروه هو الجهل الكامل بالقوانين الاقتصادية الأساسية للرأسمالية وبالأحداث الكبرى في الصراع الطبقي التي جرت خلال عصرهم. وبدلا من “الاختزالية الاقتصادية”، وهو الخطأ الذي لم يقترفه ماركس وإنجلز أبدا، نشهد عند أصدقائنا اختزالية ثقافية، حيث هيمنت مخاوفهم الشخصية من الثقافة السائدة على “نظريتهم” إلى درجة استبعاد كل شيء آخر. لقد تم اختزال مئات السنين من التاريخ بشكل فظ في ما أسموه آثام عصر التنوير، وذلك بأكثر ما يمكن تخيله من أشكال المثالية ابتذالا.

عند التحليل الدقيق يظهر أن الفكرة الرئيسية لمدرسة تطلق على نفسها اسم “النظرية النقدية” -حول أن الطبقة العاملة لا تستطيع تحرير نفسها من المجتمع الطبقي- ليست نقدية على الإطلاق تجاه تيارات عصرهم. إن إعلائهم المثالي لـ”العقل” إلى قوة فوق تاريخية تتجاوز الصراع الطبقي، ليس سوى تكرار غير نقدي للتحيز المميز للطبقة الوسطى في ذلك الوقت، والذي يدعي أن الكينزية قد حلت تناقضات الرأسمالية. لقد كانوا جاهلين تماما بالتناقضات الاقتصادية التي تتراكم في المجتمع. والمفارقة المثيرة للسخرية هي أن هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بـ “الديالكتيكيين” لم يتمكنوا من رؤية أبعد من النموذج الكينزي للرأسمالية، فبالأحرى أن يروا أبعد من الرأسمالية ككل. إن “النقد” في “النظرية النقدية” ليس من النوع الديالكتيكي، بل من النوع المبتذل : إنهم نقديون فقط لأنهم يتذمرون ببساطة من كل جوانب المجتمع الحديث والثقافة الحديثة. وهم يتذمرون، على وجه الخصوص، من أن الطبقة العاملة أكثر محافظة وأكثر امتثالا مما يمكنهم أن يتحملوه. إن “النظرية النقدية” سطحية للغاية بكل معنى الكلمة، لأنها، باعتبارها شكلا من أشكال المثالية، تقتصر على التحليل الثقافي دون فهم الأساس الاقتصادي والسياسي لتلك الثقافة، أو فهم طبيعتها الانتقالية. وبسبب افتقارهم إلى الفهم التاريخي الجاد، فإنهم لم ينتجوا إلا ما يمكن وصفه بأنه مجرد عبارات فارغة من المحتوى.

إن الفكرة القائلة بأن الثورة في زمننا هذا هي أمر مستبعد بسبب تأثير الأجهزة الإعلامية الحديثة، هي فكرة يتم طرحها بشكل روتيني في كل عقد كما لو كانت اكتشافا جديدا. ففي ذلك الجيل كان تأثير التلفزيون، وفي الجيل اللاحق هناك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. وفي كل مرة يقال لنا إن هذا يدل على أن الصراع الطبقي لم يعد على جدول الأعمال، وأن الماركسية قد عفا عليها الزمن. ومع ذلك فإن الصراع الطبقي يعود كل مرة ليرفع رأسه من جديد. واليوم أصبحت الطبقة العاملة أكثر عددا وقوة من أي وقت مضى. وقد برز جيل يزداد راديكالية ويبحث عن أفكار ثورية. في حين أصبحت الرأسمالية مكروهة في كل مكان. إن ما يسمى بـ “الوسط” ينهار والبرجوازية تفقد السيطرة على أحزابها التقليدية. وإذا ما بحثنا عند مدرسة فرانكفورت عن تفسيرات أو حلول لأي من تلك المسائل التي أشرنا إليها فسيكون بحثنا دون جدوى، حيث لن تقدم لنا سوى المزيد من الازدراء والتهكم تجاه الطبقة العاملة وشباب اليوم.

ومجددا، بات واضحا أن الماركسية وحدها هي القادرة على توفير الأدوات اللازمة لفهم تلك السيرورات، والأسلحة التي يمكننا من خلالها وضع حد نهائي للبؤس الذي ينتجه المجتمع الرأسمالي. لقد أظهرت الطبقة العاملة مرارا وتكرارا أنها الطبقة الثورية الوحيدة في المجتمع الحديث. وهي وحدها القادرة على إخراج المجتمع من أزماته العميقة التي أغرقته فيها الرأسمالية اليوم. لكنها لا تستطيع أن تتحمل ترف الكلبية البرجوازية الصغيرة. إنما تحتاج إلى قادة جريئين مستعدين لتقديم تضحيات جدية في النضال من أجل التحرر. إنها بحاجة إلى قادة تعلموا الدروس الحقيقية للثورات الفاشلة، وذلك لكي ننتصر في المرة المقبلة. إن الطبقة العاملة بحاجة إلى الماركسية الحقيقية.

المراجع

[1] يقصد هنا بالثقافة الجماهيرية (Mass culture) المنتجات الثقافية التي يتم إنتاجها على نطاق واسع وللجمهور الواسع، وتشمل الأفلام والبرامج التلفزيونية والسلع الترفيهية والفن المبتذل إلخ. المترجم

[2] K Marx, The German Ideology, Marx & Engels Collected Works vol. 5, Progress Publishers, 1968, pg 36

[3] K Marx, Preface to A Contribution to the Critique of Political Economy, International Library Publishing, 1904, pg 11

[4] M Horkheimer & T Adorno, Dialectic of Enlightenment, Verso Books, 1997, pg xiii

[5] ibid., pg 6

[6] ibid., pg 7

[7] ibid., pg 24

[8] ibid., pg 4

[9] F Engels, Socialism: Utopian and Scientific, The Classics of Marxism vol 1, Wellred Books, 2013, pg 39

[10] T Adorno, Negative Dialectics, Continuum Publishing, 2004, pg 320

[11] See T Grant, Will There be a Slump?, 1960

[12] H Marcuse, One Dimensional Man, Routledge and Kegan Paul, 2002, pg 128

[13] ibid., pg 3-4

[14] يوضح ماركيوز بشكل جلي، على الرغم من لغته الطنانة، أنه يعتقد أن الفكر “العقلاني” لديه نوع من القوة السحرية لتشكيل المجتمع وبالتالي تجاوز الصراع الطبقي. يقول: “إن العقلانية العلمية تصنع تنظيما مجتمعيا محددا، وذلك على وجه التحديد لأنها تعرض مجرد شكل [!؟]… يمكن تطويعه عمليا لجميع الغايات”. المرجع نفسه، ص 160

[15] ibid., pg 26

[16] المرجع نفسه، ص 10. ومرة أخرى، على الرغم من لغته الطنانة، من الواضح أن ماركيوز يعتقد أن قوة التفكير العقلاني قد احتوت الصراع الطبقي: “لقد غيّر التطور الرأسمالي [الجديد، العقلاني التقني] هيكل ووظيفة هاتين الطبقتين [البرجوازية والبروليتارية] إلى درجة أنهما لم تعودا تبدوان وكأنهما عوامل للتحول التاريخي. إن الاهتمام الأسمى بالحفاظ على الوضع المؤسسي الراهن وتحسينه يوحد الخصوم السابقين في المناطق الأكثر تقدما في المجتمع المعاصر”. المرجع نفسه، الصفحة: xliii.

[17] F Engels, “Engels to J. Bloch”, Marx Engels Collected works vol 49, Lawrence and Wishart, 2001, pg 33

[18] M Horkheimer & T Adorno, Dialectic of Enlightenment, Verso Books, 1997, pg xiv-xv

[19] ibid., pg 133-134

[20] R Sewell, Germany 1918-1933: Socialism or Barbarism, Wellred Books, 2018

[21] T Adorno, The Culture Industry, Routledge, 2001, pg 150

[22] H Marcuse, “An Essay on Liberation”, Zeitschrift für Philosophische Forschung 26 (1), 1972, pg 27

[23] S Jeffries, Grand Hotel Abyss, Verso Books, 2016, pg 292

[24] S Muller-Doohm, Adorno: A Biography, Polity Press, 2008, pg 414

[25] M Horkheimer, The Eclipse of Reason, Oxford University Press, 1947, pg 124

[26] M Jay, The Dialectical Imagination, University of California Press, 1973, pg 205

[27] S Jeffries, Grand Hotel Abyss, Verso Books, 2016, pg 72

[28] ibid.

[29] ibid., pg 54

[30] ibid., pg 78